المحامي النجم

يحكى ان حبة “دنجو” وقفت في حلق خلفان، فأستاء منها أشد الاستياء، وانتشر خبر استيائه في الأجواء. وصب الجماهير الزيت على نار خلفان المشتعلة مطالبين بالقصاص من حبة “الدنجو”، مطالبين بتحريك دعوى قضائية تقتص الحق لخلفان ومن سبق ان عانى جور أخوات “الدنجو”.
فما كان من الزميل “المحامي النجم” الا ان أعلن باسم الجماهير انه مخلّصهم، واقدم على تحريك الدعوى القضائية ضد الجناة (حبات الدنجو)، فهتف باسمه الجماهير، ذاع صيته. وقصده القاصي قبل الداني ليعضد القضية الشعبية، فمواقف مشابهة حدثت لهم مع حبات الدنجو او بناتهن (الغرغر)، فقال الاول “كسرت غرغرة سني، فخذ لي حقي”، وقال الثاني “عاثت هذه الحبات في جسدي فسادا، فكثرت غازات بطني، ونفر الناس من حولي. أعد لي مكانتي”، وقال الثالث ” فلفلها اصابني بالتهابات في الكلى”، والرابع يصرخ “غرغرة اسقطني أرضا، وكسرت لي ساقا”.
فقام “المحامي النجم” ودق صدره واعدا بالحق، ونشر خبر بطولته -قبل ان تكن- في كل وسيلة تواصل طالها، ولم يترك صغيرا او كبيرا الا اخبره عن حملته ضد قبيلة “الدنجو” -ومعها الغرغر طبعا-.
و وصلت الدعوى لقاعة المحكمة، فنطق القاضي بعدم اختصاص المحكمة الحالية، وتاهت قضية الجماهير.
لكن “النجم” لم يكل او يمل، و وجد “الصيف” ندا جديدا جديرا بتحريك دعوى قضائية ضده، فحشد الجماهير ونادى في الجمع “يا قوم، ان الصيف قد احرق جلودنا، وغلى الدم في عروقنا، واذاب عقولنا، فماذا أنتم فاعلون؟” فهاجوا وماجوا، وعزموا على السير وراء “النجم” من جديد.
وانتشرت نار الخبر في هشيم الاعلام، وهام
النجم” بحب الشهرة القادمة، وأخذ يسرد تفاصيل جهوده الجبارة.
وفي نهاية المطاف “تم حفظ الدعوى”.

هذا المحامي موجود بيننا، البعض يصارحه بما يخالجنا حيال تصرفاته، والبعض الاخر يغتابه.

اكثر من أمن

اخيراً بدأت إجازتي، حان الوقت لاعوض ما فاتني من أفلام ومقاهٍ ومطاعم جديدة تم افتتاحها خلال الشهور السبعة الماضية. والأجمل من ذلك، ان اليوم اقضي الليلة مستمتعا بحفل افتتاح كاس العالم في المقهى على أنغام لاتينية ورقصات برازيلية مثيرة.
“ماذا تفعل هنا؟” قالها مفاجئا إياي وهو يضع يده على كتفي من الخلف. التفت بالدهشة ذاتها التي علت وجهه. “غالبا، ما تفعله انت هنا”، جلس معي على الطاولة منقذا إياي من احراج الجلوس وحدي في ليلة كهذه، وبدأت الأحاديث تأخذنا انتظارا لبدء حفل الافتتاح.
“أليست لديك قضايا تراجعها؟” قالها لي ساخرا، دون ان يعلم عن بدء إجازتي، فقلت “العقبى لك يا صديقي، انا في اجازة.. مساكين أنتم رجال الأمن”.
تنهد وهو يقول “صدقت. تمر الساعات ثقيلة يا رجل، وتمتد احيانا لما بعد المغرب”، هززت راسي مؤيدا ومتفهما لصعوبة عملهم، خاصة مع وجود قضايا حساسة تتطلب إجراءات أمنية مشددة. “هو موسم القضايا الكبيرة يا عزيزي من الدقم الى الإسكان الى النفط وعضو مجلس الشورى” قالها بثقل كبير لمسته في ثقل تنهداته.
ثم بدا الحفل في الوقت المناسب، وبدأنا دور النقاد لمواطن ضعف الحفل والموسيقى والأداء الراقص، وأحيانا الأزياء أيضاً.
وما ان ظهرت احدى الفتيات الراقصات، حتى أشار صاحبي اليها “الا تشبه تلك الفتاة من المحكمة؟!” كانت صدمتي اكبر من ان أرد عليه، فأولا لم اعلم عن اي فتاة يتحدث، واستغربت ان صورة “فتاة المحكمة” حاضرة بهذه القوة والوضوح في ذهنه لدرجة ان تخطر بهذه الصورة المفاجئة، نظرت اليه مبتسما بخبث واضح وقلت “حقاً؟ يبدو ان وظيفة رجل الأمن اكثر امتاعا عما ظننت”. ضحك صاحبي ملقيا هم يومه الطويل، وعدنا لمتابعة الحفل.

هل فعلتها؟

اثناء جلوسنا في ذلك المقهى الضاج بالناس، وبعد يوم طويل من الجلسات القضائية المضنية. ارتشف من فنجانه قائلا “كم هي مثيرة”..”أرأيت كيف تختال في مشيتها؟”
فيرد عليه صاحبنا “انت متزوج، وأب لطفل بالكاد اكمل عامه الاول. دعها لغيرك يا رجل”، والتزمت الضحك ردا على ذاك وهذا، فأردف صاحبنا يقول “وهي بعيدة المنال” وأتم عبارته الاخيرة بدفرة خفيفة لكتف الاول.
استرخى في مقعده وأخذ نفسا عميقا، وارتسمت على شفتيه ابتسامة قبل ان ينظر بنصف عين لصاحبنا وهو يقول “من قال انها بعيدة المنال” وأتم ابتسامته بغمزة تحمل نصرا يكاد ينكشف.
لم أدر حينها اذا كان يقصد ما فهمته وصاحبنا، فنظرنا اليه -بعد ان تركنا قدحي الشاي- متعطشين لاحتساء تفاصيل تلك العبارة وما تلاها من غمز.
نظر للأعلى كمن يتذكر تفاصيلا معينة، كمن يعيش لحظات نشوة من جديد، حثثناه كثيراً على البوح بتفاصيل تلك اللحظات، وان يترك عنه أنانية الانفراد بتلك المتع.
ثلاثتنا نعلم كيف ظهرت “هي” في حياتنا، كيف يعتبرها الجميع بعيدة المنال، تلك التحايا الرسمية والبخل الشديد في الابتسامات. لقاءاتنا بها بصورة شبه يومية تذهب بكآبة ذلك المكان، وان لم تكن تعلم ذلك.
ظل هو يتلذذ بتعذيبنا وهو يعيد في باله لحظات او تفاصيل نتوق لها. “ناعمة ولذيذة يا رجل”..”ملمس ثديها و طعم شفتيها.. آه كم تعذبني، وتعذبه” قالها ونظر للأسفل قبل ان ننفجر ضحكا، فسأله صاحبنا “هل حقاً فعلتها؟” فرد عليه بابتسامة و قال “مكاننا المميز بالقرب من مجمع الدولفين يخبئ نيرانا اشتعلت”، طلبنا المزيد جشعا في التفاصيل الساخنة فقال “لا تعليق، فصباح الغد نعود خصوما”

ابحث عن موكلة

كم كانت شهية وجبة المأكولات البحرية تلك التي طلبناها، شعرنا بالثقل بعدها، فكان الشاي ضرورة اللحظة. وبانتظار الشاي، سألته “مالك يا اخي و قضايا النساء؟ أراك غالبا ما تمثل النسوة في المحاكم؟ اتبحث عن الثانية ام ماذا؟” ضحك وهو يقول ” بل انا نصير المرأة. اعشق هذا المخلوق في كل صوره، كما انها دائماً مظلومة”.
وصل الشاي، في اللحظة التي مرت بها احدى موكلاته، فنهضنا للتحية من باب اللباقة بعد ان ألقت السلام. وكم تغير صاحبي في أسلوب كلامه حين وصلت، اختفى ذلك المخلوق الفظ وحل محله رجل محترم يتحدث بهدوء وابتسامة. فمرت، ولم يمر موقفه مرور الكرام “ليتني امرأة كي تكلمني بهذه الحلاوة يا صاح”، ضحك بصوت عال على تعليقي وقال “اللباقة فرض”، فأجبته “فرض كفاية ينطبق على حواء ويسقط عن آدم؟!”.
جلسنا نحتسي الشاي، وهو يحدثني عن حياته الزوجية -التي بدأت بعد ان تجاوز ٣٧من العمر ولم تكمل عاما واحدا-، شعرت بالحزن في نبرته وهو يتحدث عن ساعات العمل الطويلة بين المكتب والمحاكم، وعودته للمنزل فيقضي الساعة الاخيرة قبل النوم وحيدا، مستلقيا على سريره البارد، محتضنا مخدته.
صاحبي هذا يعاني الخجل الشديد في علاقته بزوجته، فهو أسد في المحاكم، وفي السرير نعامة. احسده على جرأته في الاعتراف بذلك، و أشفق عليه من عدم تمكنه من الحديث مع زوجته حول احتياجاته. ولربما كان هذا السبب وراء اختياره “الموكلات” اكثر من “الموكلين”.

الحسن والغرور

حسنا، لا ننكر وسامته، لكن لا يعني ذلك ان يستأثر بنظراتها لمجرد انه يلبس “بشتا” و يعتلي المنصة. نحن أيضاً لا نقل خلقا او وسامة عنه. هل لعبت نظراته لها دور المغناطيس يا ترى؟ لم تخف نظراته لها عن اي منا، همساته لمجاوره التي تحثه هو الاخر على تفضيلها بالمعاملة، فتحضر الجلسات السرية دون غيرها ممن لا يرتبطون بالقضايا، ولها موقعها المحدد في القاعة لا ينازعها فيه مخلوق.
نعم، هي أيضاً جميلة، لكن لا يعني ان يستخف بجهودنا لمجرد ان عينيه تعكس اهتمامه بها هي.
تجادلت يوما مع احد اخوتي في المهنة عن اي “البشتين” اكثر اهتماما وتركيزا عليها، وأيهما يحظى باهتمامها. “الا تلاحظ انها تجلس دائماً مقابله؟”، “لكننا نحجب الرؤية”، “هل قرأت لغة جسدها وتنهداتها حين يبدأ بالحديث؟”، أراك مأخوذا بها، فهل هي غيرة؟”
بدأت أتمنى رحيلها، لاكسر تلك العلاقة السافرة بين عينيه وعينيها. أيعقل ان لا يأبه لنظراته التي ترشق جسدها كلما تحركت في مقعدها، في كل خطوة تخطوها. وليته يصد نظراتها بارتداء ما يدل على ارتباطه بامرأة اخرى حملت طفله منذ اقل من عامين؛ بل لا أراه الا مستمتعا بجذب أنظار الفتيات، لم يتغير البتة، وما زادته دراسته في تلك الدولة العربية الا غرورا بشكله وحسبه ونسبه.
وزاد غروره إسناد قضايا كبرى له رغم صغر سنه وقلة خبرته، كيف لا وهو ينحدر من عائلة مكنته من تخطي الكثير من الحواجز والعقبات لمجرد قراءة اسم عائلته.
اعرف انها لم تكن الاولى، ولم تكن أيضاً الاخيرة التي تنجذب له، فلو كنت انا امرأة لانجذبت له وسلمته نفسي.